الكلمة التأبينيَّة التي أُلقِيت أثناء صلاة تجنيز الفقيد الكبير الطَّيِّب الذكر الأستاذ عبدالكريم حصري

بالنيابة عن الخوري الدكتور جوزيف ترزي

أيُّها المُشَيِّعونَ المُبارَكونَ:

إنَّه الخَطْبُ الجَلَل ... النَّجْمُ السَّاطِعُ في سَماءِ السُّريانِ قد هوى وَأَفَل. أبو غسَّانَ، صانِعُ الرِّجالِ ومُرَبِّي الأجيالِ قد رَحَل ... فاتَّشِحي يا أُمَّةَ السُّريانِ الحِدَادَ في الوطنِ والمَهْجَرِ، وصوغي لَهُ المراثي بَلاغَةً وبَيَانًا، وقلائِدَ المَجْدِ لؤلؤًا وعِقْيانًا، واضفِري الأكاليلَ وَرْدًا ورَيْحانًا، واذْرِفي الدُّموعَ أمامَ مَثْواهُ لَواعِجَ وأَشْجانًا.

        كان، رَحِمَهُ اللهُ، قُدْوَةً في المَزايا، شُعلَةً مِن حِدَّةِ الذَّكاءِ، سَبَّاقًا في المَكارِم، وجْهًا نيِّرًا مِن وُجوهِ السُّريانِ في المِنطَقَةِ الصَّدَدِيَّةِ وفي الجزيرة السوريّة، وفي كلِّ مكان، ووَجِيهًا لامِعًا مِن وُجَهائِهِم، وقَلعةً شامِخةً مِن قِلاعِهم، ذا أصالَةٍ نادِرَةٍ، وَنَزاهَةٍ أدهَشَتْ مَعارِفَهُ. كانَ سَيفًا على الباطلِ يُزهِقُهُ، ومُناصِرًا  للحقَّ يرفَعُ لواءَه عاليًا. تَفَتَّـقَتْ مِن أكْمامِهِ الصَّراحَةُ في القَولِ، والاستقامَةُ في العَمَلِ مَقْرونَةً بالجُرْأَةِ والإقدام. فَرَضَ بشَخصِيَّتِهِ الفَذَّةِ احتِرامَهُ على جُلَسَائِهِ فَرْضًا، وانتزَعَ مِنْهُم المحَبَّةَ والإكرامَ والاحتِرامَ انْتِزَاعًا. فَيا لَهُ دُرَّةً لامِعَةً، وعِقْدًا ثَمِينًا كانَ يَزْهو على صَدْرِ السُّريانِ، بل على صَدْرِ مُحيِطِهِ كامِلاً.   

        كان أُستاذُنا عبدُالكريم مَفْخَرَةً مِن مَفَاخِرِ الزَّمانِ، عِملاقًا مِن عَمالِقَةِ الرِّجالِ، ونادِرَةً مِن نوادِرِ العَصْر، فلا عَجَبَ إِنْ رأَيْناهُ يَغزو القلوبَ فَيَكثُرُ مُحِبُّوهُ والمُعْجَبونَ به، وَيَجِدُ نفسَهُ مُحاطًا بِحَشْدٍ كبيرِ يَحمِلونَ لَهُ أَصدَقَ المشاعِرِ وأَنْبَلَها. وها قد جاءَتْ هذه الحُشودُ اليَومَ لِكَيْ تُمَتِّعَ نَظَرَها للمَرَّةِ الأَخيرةِ بِمُحَيَّاهُ الجليلِ. جاؤوا يَحمِلونَ بَيْنَ أكُفِّهِم الدُّموعَ لِيَسْكُبوها أمامَ هذا المَشَهَدِ المَهِيبِ ... حَمَلوا تلك الدُّموعَ وهاتِيكَ اللَّواعِجَ لِيَسْكُبوها في هذه الوَقْفَةِ الرَّهِيبَةِ لِتَكونَ شاهِدَةً على الحُبِّ العَمِيقِ الذي تَـكُنْهُ تِلك القُلوبُ لشَخْصِهِ الكريم.

     وها هِيَ ثمارُكَ الشهيةُ يا أبا غَسَّانَ تَشْهَدُ على ما أقول:  هُوَذا أبناؤُك وبَناتُكَ الأفاضِلُ، أعزاؤُنا غَسَّانُ، وحَسَّانُ، وإلهامُ، وسِهامُ، وهيامُ، ولَمِيسُ، ونُهى،  قد وَرَّثْتَهُمْ مَزاياكَ الرائعةَ،  وَرَبَّيْتَهُمْ على الفضيلةِ،  وعلَّمْتَهُمْ مِن الأخلاقِ ما سَمَا،  ومِنْ مَحَبَّةِ الخيرِ والناسِ والعملِ الصَّالحِ ما عَلا، وَمِن الوَطَنِيَّةِ ما يَدعُو إلى الفَخْرِ والاعتِزازِ،  فباتُوا يتنافَسونَ في صالحِ الأعمالِ، وَيَهُبُّوْنَ لنُصْرَةِ الحَقِّ ومَدِّ يَدِ العَوْنِ للسائلين ولغيرِ السائلين وصَفْوةُ القول:  إنَّكَ وَرَّثْتَهُمْ ما أنعمَ الُله عليكَ مِن المَحاسنِ،  شارَكَتْكَ في ذلك قرينتُكَ الفاضلةُ أمُّ غسَّانَ،  الدُرَّةُ الثمينةُ التي أهداكَ إياها الُله زِيْنَةً للسيداتِ التَقِيَّات الفاضِلات،  ومكافأةً لكَ لمزاياكَ،  فكانتْ لكَ خيرَ مُعينةٍ ونَصِيْرَةٍ في مَسيرةِ حَياتِكَ.

        مَرَّةً أُخرى نقول: يا لِهَولِ المُصِيبَةِ ... ويا لِفَداحَةِ الخَسارَةِ ... إنَّ فاجِعَتَـكُم لَعَظيمَةٌ يا شَعبَ البلادِ الصَّدَدِيَّةِ الأَبِيَّ، ويا أيُّها الشَّباب الأحرار، ويا بَني السُّريان عامَّةً. لقد صَمَتَ بُلْبُلُكُم، وانطَفَأَتْ شَمْعَتُكُم الوضَّاءَةُ ... وكَيْفَ يَصْمُتُ ذلكَ البُلْبُلُ الصَّدَّاحُ؟  وكَيْف يموتُ ذلك البَيَانُ السَّاحِرُ؟ ...  أينَ يَراعُكَ يا سَيِّدَ المَحابِر والمَنابِر؟  واحَسْرتَاه ... لقد تَكَسَّرَ ذلك اليَراعُ، وتَمَزَّقَتْ تلك الطُّرُوسُ ... إيهِ يا لُغَةَ الضَّادِ، اِبكيهِ بُكاءً كثيرًا، فقد كان بطلاً مِن أَبطالِكِ المغاوير. كم سهِرَ مَعَكِ يلتقِطُ مِنْ رِياضِكِ زُهورَ النُّورِ فأنعَشَكِ بمَقالاتِهِ الشَيِّقَةِ وخُطَبِهِ الرَّفِيعَةِ العَصْماء تاركًا فِيكِ آثارَهُ الخالدة. أيُّها الشِّعْرُ العَرَبِيُّ: اِرثِهِ،  فقد دخَلَ عالَمَكَ فصاغَ لنا القصَائدَ الرَّوائِعَ. ما كُنَّا نُصّدِّقُ يومًا أنَّ نَهرًا يَسَعُ بَحْرًا يتدفَّقُ حِكْمَةً، وأدَبًا جَمًّا، وعِقدًا نَيِّرًا، وفؤادًا ذَكِيًّا، وذُهْنًا مُتَوَقِّدًا، وجوابًا حاضِرًا ... يُوارَى الثَّرى في وَقْتٍ كانَ فيهِ شَعْبُكَ، وبخاصَّةٍ شبابُهُم الحُرُّ الأبيُّ، في أشدِّ الحاجة إليك. ولهذا يبكِيكَ رِجالُهم ونِساؤُهُم، يا أبا غسَّانَ، وتَنوحُ عليكَ البِلادُ الصَّدَدِيَّةُ، والجزيرةُ السوريَّةُ، وكلُّ مَواطِنُ السُّريان، ويَنْدُبُكَ الوْطَنُ السوريُّ كُلُّهُ ابنًا بارًّا تَغَنَّى بأَمجاده، وأنشأَ له أجيالاً سَلَّحَها بالعِلْمِ والعِرفانِ، ومَكارِمِ الأخلاق، وخَرَّجَ أبطالاً يَذُودُونَ عنه، ويَرفعونَ شأْنَه، ويتنافسون في خِدمتِهِ.

        هكذا حقَّقَ فقيدُنا الغالي دَعْوَةَ السَيِّدِ المسيح القائل: "ليُضيءَ نورُكُم أمامَ النَّاسِ لِيَرَوا أَعمالَكُم الصالِحَةَ ويُمَجِّدوا أَباكُم الذي في السَّماوات."

        أَجَل، لقد رَحَلَ أبو غسَّانَ ... بَل إنَّهُ لم يَرحَلْ!! إنَّه حَيٌّ يَعيشُ بَيْنَنا يا أيُّها النَّاس، حَيٌّ بِشِعارِ حَياتِهِ، باقٍ بما سَمَا مِنهُ وارتَفَعَ، يُسمِعُنا نَغَماتِهِ الصَّادقةِ، وفَصَاحَتَهُ الخلاَّبَةِ، وبَيانَهُ السَّاحِرَ، وهذا صَرِيرُ قَلَمِهِ السَّيَّالِ يَمنَحُ الأرواحَ قُوَّةً ورجاءً، وأُنشودَةُ سيِرَتِهِ العَبِقَةِ ستُنشَدُ على مَرِّ الزَّمانِ، وسيَدومُ ذِكْرُهُ ما دامَ في هذه الدُّنيا عِلمٌ مُنِيرٌ، وعُقولٌ وأذهانٌ، وفضيلةٌ يُعَطِّرُ عَبِيرُها الأَنفاسَ. كلاَّ أيُّها السَّامِعون، إنَّ أبا غسَّانَ لم يَمُتْ، إنّه حيٌّ بِفَضْلِهِ وفضِيلَتِهِ، ولن يكونَ في وِسْعِ أَحَدٍ أن يَنْساهُ. إنَّ له حُلَفَاءً وأصدِقاءً عِظامًا في هذا العالمِ وهُم: العِلْمُ، والفَضْلُ والفَضِيلَةُ، والحِكمَةُ والدِرايَةُ، وَحُسْنُ الإدارةِ والقِيادةِ، والحُبُّ والنُّفوسُ الصَّالِحَةُ الكَريمَةُ التي لا تُقْهَرُ ولا تُغْلَبُ.

        تغَمَّدَكَ الرَّبُّ الإلهُ بِرِضْوانِهِ يا أبا غَسَّانَ، وبلَّلَ ضَريحَكَ بِغُيوثِ حَنَانِهِ، ورَحِمَكَ رَحْمَةً واسِعَةً، وضَمَّكَ إلى نُدَماءِ عُرْسِهِ السَّماويِّ، وسَكَبَ نِعْمَةَ التَّعْزِيةِ والسُّلْوانِ على قلوبِ قَرِينَتِكَ الفاضِلَةِ أُمِّ غسَّانَ، وأبنائِكَ وبنَاتِكَ الأفاضل، وعلى أَخَوَيْكَ وأَخَواتِكَ أَعِزَّائِنا نعيم ،وأنطوان، وشمسه، وميليا، وجميلة، وعلياء، ورَضوة، ومريم، وعلى جميع أفراد آل حُصري والبِرّ، وأَقْرِبائِكَ وَذَوِيكَ وكُلِّ عارِفِيكَ، إِنَّه السَّمِيعُ المُجِيبُ. آمين.

صَدِيقُ الفقيد الغالي الصَّدوق

الخوري الدكتور جوزيف ترزي